تمثل الزيادة السكانية سلاحا ذو حدين؛ فتفيد منها الأمم وتخسر بسببها. في المناطق الريفية الفقيرة تكون الزيادة السكانية مهمة جدا للأسر الفقيرة؛ حيث تمثل هذه الزيادة مصادر دخل ترفع من مستوى الحياة لدى تلك الأسر. أما في الأماكن الغنية فتمثل هذه الزيادة خطورة حقيقية؛ إذ إنها تلتهم كل ما تجده من مصادر الدخل الموجودة بالفعل.
ولأن مجتمعاتنا تهتم بالناحية الشكلية، ولا تدرس الأمور بعمق؛ فقد تعمق لدينا يقين بأن الزيادة السكانية من عوامل تخلفنا، وهي السبب الحقيقي وراء تدهور اقتصادنا، وعدم صموده للمتغيرات العالمية. والحقيقة التي أومن بها هي أن السبب في تخلفنا اقتصاديا هو تفكيرنا السطحي، ونظرتنا الشكلية للأمور، ونظامنا التعليمي الفاشل، وحياتنا الاجتماعية غير السليمة.
إن الطلاب أو التلاميذ عندنا لا يعملون بحجة أن عمل الصغار جريمة إنسانية، وهذه كلمة حق أريد بها كل الباطل؛ فالأطفال لا يعملون حتى يستمتعوا بطفولتهم، وبذلك يتعودون على الكسل والتواكل، ولا يكون لديهم إحساس بأية مسئولية؛ ويكبرون أو يكبر بهم الزمان وهم على هذا الوضع من الكسل والتواكل وعدم الإحساس بالمسئولية، وتنتهي حياتهم الجامعية ويخرجون إلى سوق العمل ليمارسوا ما تعلموه في حياتهم العملية وهو الكسل والتواكل وعدم تحمل المسئولية، فيكونون وبالا على مجتمعات تستجدي طعامها من الأصل؛ ويزيد استجداء هذه المجتمعات طعامها مع زيادة السكان. ويصبح المسئولون كمن يدور في ساقية مغمض العينين، يتمنى أن تُحل مشاكله، ويتم حله من تلك الساقية، وهيهات.
يكبر الأطفال، ويصيرون شبابا وهم ينتظرون من آبائهم وأمهاتهم أن يقوموا بتوفير حاجاتهم، فالآباء والأمهات هم أصحاب المسئولية، والشباب لا مسئولية لديهم، ولا طموح يداعب أفكارهم، ويبحثون عن الربح دون عمل؛ فنظمنا التعليمية والاجتماعية والإعلامية تغرس فيهم تلك السلبية، وتعودهم على الاتكال على الغير دون الشعور بالمسئولية الفردية فضلا عن المسئولية الجماعية.
في القرى كان الأطفال يتابعون آباءهم وأمهاتهم في الذهاب إلى الحقل، ويساعدون في العمل في الحقل مع الآباء والأمهات، ومع أنهم كانوا يعملون ويتعلمون كانوا يتفوقون. والشريحة الكبيرة من المتفوقين في كل المجالات من أبناء الريف؛ فقد تعودوا على تحمل المسئولية، وتعلموا عمليا كيفية الالتزام بالجدول الزمني المحدد لإنهاء الأعمال؛ فكل عمل له وقت، فللمدرسة وقتها، وللحقل وقته، وللمذاكرة وقتها، وللعب وقته، وللراحة وقتها أيضا.
أبناء الريف يستمتعون بطفولتهم أكثر من أبناء المدينة، ويمارسون اللعب البسيط غير المعقد، ويمارسون أعمالا مهمة في بناء شخصياتهم التي تنمو معهم، ويحاولون تغيير حياة أسرهم لما هو أفضل، ويكتسبون صحة بدنية نتيجة استخدام عضلاتهم في العمل المادي، وينافسون مع كل هذا على أرفع المناصب التعليمية، ويفوزون بكثير من هذه الأماكن في الجامعات المختلفة.
لماذا لا يعمل أبناء المدينة كما يعمل نظراؤهم من أبناء القرية؟ لا أعني أن يترك الأطفال مدارسهم ليقوموا ببعض الأعمال- كما قد يفهم بعض المتعجلين- ولكنني أعني أن تعطى لهم الفرصة ليمارسوا بعض الأعمال، ويتحملوا بعض المسئوليات لتنمو شخصياتهم وتقوى عضلاتهم، ويصبحون قادرين على تحمل المسئولية كإخوانهم من أبناء القرى.
بالطبع بعض القادرين يشترك لأبنائه في النادي، فيمارس الأبناء الرياضة في النادي فتقوى عضلاتهم، وتنمو شخصياتهم، لكن هل كل المجتمع قادر على ذلك؟ وهل النوادي المتاحة تتسع لجميع أبناء المدن؟
الأبناء عندنا ينتظرون أن يقوم الآباء لهم بكل شيء. وإلا فلماذا أنجبوهم؟ وكأن إنجاب الأبناء له نتيجة سلبية دائما، وهي الإنفاق عليهم وتحمل مسئولياتهم حتى بعد كبرهم. وتلك كارثة فكرية وثفافية، فالآباء يتحملون مسئوليات أبنائهم حتى يكبروا؛ فيقوموا هم بتحمل مسئولياتهم بأنفسهم، ويكونوا عناصر فاعلة في نمو مجتمعهم وازدهاره.
يجب أن تتغير أفكارنا ونحن نخطط للمدارس، ونحن نعد المناهج، ونحن نقوم بالتدريس، ونحن نقدم برامج التليفزيون، ونحن نقوم بالتمثيل، ونحن نمارس حياتنا الأسرية. يجب أن تتغير أفكارنا تجاه أبنائنا؛ فهم عدة المستقبل، وهم القوة التي يجب أن نقوم ببنائها على أسس سليمة.
إذا حققنا هذا الحلم بتغيير نظرتنا وتفكيرنا تجاه الأشياء؛ فإن الزيادة السكانية التي نشكو من التهامها كل زيادة في الدخل سوف تكون في صالحنا، فإذا كان الأب مسئولا عن الإنفاق على نفسه واثنين من أبنائه، فإن الإثنين بعد فترة سيحققان دخلا يعادل دخل الأب أو يزيد؛ وهكذا، فيزيد الدخل ويتحقق النمو، أما أن يبقى الجميع عالة على الأب وحده؛ فتلك هي الكارثة الحقيقية. مشكلتنا الحقيقة ليست الزيادة السكانية؛ إنما هي الكسل الفكري والبدني المبرر بمبررات عديدة.
د. حسن عبد المقصود