ضد تكافؤ الفرص
كامبردج بوك ريفيو
هذا كتاب محافظ وينتمي إلى فكر اليمين الغربي, والبريطاني تحديداً, ومثير للجدل حقاً. استقبلته الصحافة اليسارية والليبرالية في بريطانيا بالانتقاد منذ أول صدوره نظراً إلى أنه يهاجم مبدءاً يعتبر ليس من المسلمات التقدمية في الغرب وحسب, بل ومن الارتكازات "الافتخارية" لمشروع الحضارة الغربية عموماً خاصة على صعيد الترقية الاجتماعية للفرد وتذليل العقبات أمام الفرص التي يجب أن تتاح لكل فرد من أفراد المجتمع بوصفه عضواً فيه ليس إلا. ومن المتوقع أن يثير موضوع هذا الكتاب المضاد للإجماع العام المزيد من الانتقادات التي قد تصل إلى حد وصفه بالرجعية والنكوص الحداثي.
غلاف الكتاب
-اسم الكتاب: ضد تكافؤ الفرص
-المؤلف: مات كانافاغ
-عدد الصفحات: 220
يتناول الكتاب مبدأ المساواة في الفرص وهو المبدأ الذي يعتبر المحك الحقيقي لمصداقية المثل السياسية المعاصرة في الغرب حيث يتصدر التمسك به شعارات الحملات الانتخابية, وتشمل المناداة به جميع حقول الخدمات الاجتماعية وفي مقدمتها حقل التعليم. ويمكن تلخيص هذا المبدأ بضرورة أن يتاح لكل شخص الحصول على التعليم وتمكينه من تحقيق أهدافه وطموحاته على أساس المساواة في الفرص.
التكافؤ والتميز
والأساس النظري لهذا المبدأ هو افتراض قدرات كامنة عند كل فرد يجب أن يتاح له المجال كاملاً للتعبير عنها وإخراجها إلى السطح وإيصالها إلى آخر مدى استثماري ممكن، وأن الأفراد إذ يتميزون عن بعضهم البعض في الإنجازات فإن ذلك يجب أن يكون على قاعدة أولية هي توفير الفرص على قدر متساو لهم جميعاً ثم تركهم وقدراتهم كي ينجزوا ما ينجزون, وبعدها لا يكون ثمة ظلم أو إجحاف يتهم به المجتمع أو النظام القائم أو الدولة بعد أن تتفاوت إنجازات الأفراد بين مبدع استثمر الفرص المتاحة وآخر تكاسل عن ذلك أو لم يتمتع بالقدرات الذهنية لاستثمارها.
”
ما يريده المؤلف من كتابه هو تقديم نقد حاد لما يعتبره حالة اعتلال وخواء تعاني منها السياسات الأنغلوأميركية الليبرالية الحديثة بسبب ازدواجية التمسك بالمثل "الخيالية" وصعوبة تطبيقها على أرض الواقع
”
هنا في هذا الكتاب المفاجئ "ضد تكافؤ الفرص" ينتقد المؤلف مات كافاناغ هذا المبدأ من منطلق فلسفي, وهو يرى في المصطلح ذاته "المساواة في الفرص" خواء يعكس قصور اللغة التي يعبر بها عن الأفكار الفلسفية المهمة كالمساواة والجدارة والتمييز. يقول كافاناغ "هذا النوع من الأمور أسوأ حتى من الزعم بالمساواة، فالمساواة على الأقل وضع ذو معنى, في حين لا يشكل هذا الأمر وضعاً على الإطلاق، إذ لا يفيدنا في شيء أن يخبرنا ساستنا عما يمكن لهم أن يقوموا به في عالم مثالي يمتلكون فيه الموارد اللازمة لمنح كل فرد جميع ما يحتاج إليه، فما نحتاجه هو معرفة الأشياء التي سوف يقومون بها في هذا العالم (الحقيقي)..".
نقض المبدأ
ولنقض مبدأ "تكافؤ الفرص" يحاول المؤلف في البداية التصدي لعدد من القضايا الأخلاقية المتعلقة بالمثل المشتركة التي يحملها المجتمع ويعمل على تفكيكها, مهيئاً الطريق لهدفه الرئيسي بنقض "مثالية" تكافؤ الفرص. ويبدأ بطرح تساؤلات عما إذا كان الافتراض بإمكانية تحقيق المثل والقيم المشتركة أمراً منطقياً, وعن نوعية الالتزامات التي تفرضها علينا مثلنا المشتركة والكيفية التي تمكننا من تحقيقها. والجواب على هذه الأسئلة الاستنكارية عند المؤلف واضح وهو أن ليس هناك إمكانية لتحقيق المثاليات, ولا بد من اعتماد سياسة ونظرة "واقعية" قد تكون قاسية لكنها لا تغرر بالناس على أقل تقدير.
والذي يريده المؤلف من كتابه هو تقديم نقد حاد لما يعتبره حالة اعتلال وخواء تعاني منها السياسات الأنغلوأميركية الليبرالية الحديثة بسبب ازدواجية التمسك بالمثل "الخيالية" وصعوبة تطبيقها على أرض الواقع. والحقيقية أن ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من أن الكتاب ليس سوى إعادة إنتاج للنظرة الهوبزية للمجتمعات (نسبة إلى هوبز فيلسوف الواقعية السياسية الإنجليزي) الذي رأى العالم في حالة صراعية دائمة ضد بعضه البعض لا علاقة لها بالقيم أو المثل. ليس صحيحاً، ففي حين أن انتقاد المؤلف لمبدأ تكافؤ الفرص قد يبدو "غير أخلاقي" فإنه يؤسس له على أسس أخلاقية كما في الفصل الأول.
”
فكرة "الجدارة" فكرة لا تتعلق بالأخلاقيات على الإطلاق، فلو كنت أفضل الأشخاص المناسبين لوظيفة ما فإن ذلك يعتبر بالطبع سبباً وجيهاً لحصولك على تلك الوظيفة، لكن هذا لا يجعل لك حقاً أخلاقياً فيها
”
انتقاد الجدارة
فالمؤلف يتناول موضوعه في ثلاثة فصول, في الأول منها يبدأ بانتقاد فكرة "الجدارة" مشيراً إلى أنها فكرة لا تتعلق بالأخلاقيات على الإطلاق. فلو كنت أفضل الأشخاص المناسبين لوظيفة ما فإن ذلك يعتبر بالطبع سبباً وجيهاً لحصولك على تلك الوظيفة، لكن هذا لا يجعل لك حقاً أخلاقياً فيها. وهو يرى أن التطبيق الحقيقي لمبدأ الجدارة بمعنى توظيف الأشخاص استناداً إلى قدرتهم على أداء الوظيفة وحسب, يمكن أن ينطوي على درجة غير مقبولة من القسوة ويتجاوز معايير أخرى أهم. ويعتقد بأن هناك قيماً أخلاقية أخرى يجب أن يأخذها المجتمع بنظر الاعتبار عند اختيار شخص معين للقيام بوظيفة عامل في منتزه على سبيل المثال، فهنا قد يكون الشحاذ أجدر بالتعيين في هذه الوظيفة من طالب جامعي يبحث عن عمل أثناء فترة العطلة الصيفية, فإذا تمسكنا بمبدأ تكافؤ الفرص بشكل أرثوذكسي فإن الطالب الجامعي الأكثر تأهيلاً سوف يفوز بفرصة العمل على حساب الشحاذ الأكثر حاجة للعمل.
ثم ينتقل المؤلف في الفصل الثاني إلى مناقشة المساواة مجادلاً بأن المساواة ليست بالقيمة التي ينبغي لنا أن نناضل من أجل تحقيقها في مجالات العمل، فالوظائف سلع نادرة يتوجب علينا التنافس من أجل الحصول عليها. ومهما بلغت رغبتنا في الاعتقاد بأننا أشخاص متمتعون بفرص متساوية فإن "المشاركة في الوظيفة أمر غير ممكن.. والمشكلة التي تصادفنا هنا هي أن هذا النوع من المساواة -الذي يضمن لكل فرد فرصة متساوية في عدم التساوي مع الآخر- يعتبر طريقة بائسة للتعبير عن حقيقة كوننا جميعاً شركاء متساوين في وضع مشترك".
”
قضية التمييز لا تتعلق بالمساواة أو الجدارة إنما بحقيقة كوننا نشعر بوجود تمييز يمارس ضد الكثيرين منا على أساس الجنوسة (gender) أو العرقية (ethnicity)
”
قضية التمييز
ويشير المؤلف إلى أن المشكلة تتعلق بالتمييز، فقضية التمييز لا تتعلق بالمساواة أو الجدارة وإنما بحقيقة كوننا نشعر بوجود تمييز يمارس ضد الكثيرين منا على أساس الجنوسة (gender) أو العرقية (ethnicity). في القسم الذي يثير أكبر قسط من الخلاف في الكتاب يتصدى المؤلف للدفاع عن موقف يتعذر الدفاع عنه وهو موقف أولئك الذين يرفضون توظيف أشخاص معينين بسبب انتمائهم إلى مثل تلك الجماعات الاجتماعية. فهو يرى أن هؤلاء يطبقون قواعد للاختيار لا نعترض عليها عندما تطبق في مجالات أخرى, في حين نجدها غير مقبولة إطلاقاً عندما تطبق في هذا المجال.
كما أنه يعتقد بأن الفرد لا يملك حقاً أخلاقياً إزاء من يمارس التمييز ضده في مثل هذه الحالات بغض النظر عن حجم الإجحاف الذي يمكن أن يصيبه نتيجة ذلك التمييز, لأن الحقوق الأخلاقية لا تدخل في طبيعة هذا النوع من العلاقات. وهنا يصاب القارئ بالحيرة إذ يرى "هوبز" بارزاً في تحليل المؤلف, بل ووحشياً, ولا مناص من قراءة نصه هنا على أنه تبرير مكشوف للتمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس في مكان العمل وآليات التوظيف.
مناقشات وحجج
لكن يبقى أن المؤلف يقدم في الجزء الأغلب من مناقشاته حججاً قوية وتستثير التفكير, وبشكل ما يصيب هدفه من الكتاب في الصميم. كما أن مقترحاته التي يرى فيها بأن علينا أن لا نهتم بالمساواة في الفرص إنما بضرورة حصول الأفراد على ما يكفي من الفرص وضرورة تمتعهم بما يكفي من السيطرة على مقاليد حياتهم, تتسم بعمق التفكير وتتماشى مع بعض الطروحات الليبرالية الحديثة جداً. فالمشكلة لا تتعلق بالفكرة, ولكن بالحقيقة التي نشير إليها بكلمة "المساواة" وهي مبدأ يفرض متطلبات مستحيلة. ثم إن المؤلف يرى أن الكثيرين غير قادرين أصلاً على أن يتولوا توجيه حياتهم بأنفسهم, لذا يتوجب أن يتاح لهم، على الأقل، أن يعيشوا حياة لائقة. وهذا التوصيف على ما فيه من واقعية بشعة في ظاهرها يستفز كثيرين، إذ يفترض وضعا تراتبيا في المجتمع من ناحية القصور والكفاءة ويبني عليه الإطار المجتمعي الأوسع من دون أن يحاول معالجة ذلك القصور في محطة "تكافؤ الفرص", أو على أقل تقدير المرور بها.
”
علينا أن لا نهتم بالمساواة في الفرص إنما بضرورة حصول الأفراد على ما يكفي من الفرص وضرورة تمتعهم بما يكفي من السيطرة على مقاليد حياتهم تتسم بعمق التفكير وتتماشى مع بعض الطروحات الليبرالية الحديثة جداً
”
وعلى وجه شبه أكيد فإن هذا الكتاب لن يقبله سوى عدد قليل من القراء لأنه رغم عنوانه المثير للجدل والذي قد يبعد شريحة من القراء عن الاقتراب منه, يظل في جوهره كتاباً في الفلسفة التحليلية, ودراسة محددة عن قضية متخصصة. والمؤلف يقر بهذا في خاتمة الكتاب التي انطوت على نوع من الرثاء الذاتي إذ يقول:
لا شك في أن الأفكار الواردة في هذا الكتاب تحمل إشارات إلى ما ينبغي للسياسيين قوله وفعله, لكنه في نهاية المطاف يظل عملاً فلسفياً أكثر من كونه كتاباً عن السياسة أو المواقف السياسية. إنه كتاب عن القيم الكامنة وراء السياسات, وهو محاولة لطرح نوع من النقاش يغيب حالياً عن المعالجات السياسية والصحفية المعاصرة أو يجري تداوله من قبلهما بمستوى من البدائية يتمنى معه المرء لو أنه لم يناقش أصلاً. في أزمنة كهذه تقع على المثقفين المستقلين والفلاسفة المحترفين مسؤولية استمرار هذا النقاش.
وهذا الكتاب موجه إلى أولئك المثقفين المستقلين حقاً, إذا كان قد تبقى منهم أحد، و ما من شك في أنه لا يزال هناك "مثقفون مستقلون" حقاً, أما مدى استعداد أولئك المثقفين لتحمل عناء الخوض في 200 صفحة من الكلام غير المشوق, فأمر آخر يخضع لأكثر من احتمال, خاصة عندما يكون هذا الكلام حمال أوجه بعضها تقر بالعنصرية والتمييز ضد شرائح من البشر بسبب انتماءاتهم الاجتماعية أو الإثنية أو الدينية, وذلك في أخطر حقل من حقول الحياة, وهو حقل الحق في العمل.
المصدر: الجزيرة